معطّر الجنّ- بين حلم الصورة، سحر الأخت، وحظّ الصورة المشوّهة

المؤلف: علي بن محمد الرباعي10.12.2025
معطّر الجنّ- بين حلم الصورة، سحر الأخت، وحظّ الصورة المشوّهة

في أعماق فؤاده، كان "معطر الجن" يراوده حلم عذب، طالما داعب خياله وأشعل أوار شوقه، وهو أن يلتقط صورة تجمعه بالعريفة، ويعلقها شامخة في صدر مجلسه الوارف، لتشهد عروسه القروية القادمة على مكانته الرفيعة بين علية القوم، وأنه لا يصادق إلا ذوي الشأن والنفوذ، أصحاب الكلمة المسموعة والمقام الرفيع، فهو ليس بشخص مغمور. بيت الأحلام ذاك، قد شيده "معطر الجن" في مخيلته قبل أن يضع لبنة واحدة على أرض الواقع، فوسع المجلس ليضاهي رحابة الكون، وخصص علية فسيحة لإقامة الأفراح، ولم ينسَ حظيرة متواضعة بجوار العلية، لتأوي أغنامه وبقرته وحمارته، ولم يبقَ أمامه سوى تحقيق هذا الحلم. ولم تمضِ فترة طويلة، حتى أقبلت أخته "الحولاء" على ظهر جمل مزين، تحمل معها حكايات السحر والشعوذة، كانت "الحولاء" زوجة لفقيه يقيم في قرية نائية، إلا أن القدر لم يمهله، فقد فارق الحياة إثر انفجار "المِسكة" في جوفه، بعد أن أفرطت "الحولاء" في إطعامه بشتى أنواع الأطعمة الدسمة، وعندما اقتربت منه ليلتها، وجدته شاحب اللون، هامداً، ففارقت روحها جسدها من هول الصدمة، ولم تنطق ببنت شفة، فقد أسكتتها الجن، الذين يسارعون إلى إشاعة الخبر قبل بني البشر، وغطت في نوم عميق حتى مطلع الفجر. عندما استيقظت "الحولاء" ظنت أن ما جرى مجرد كابوس، لكنها سرعان ما أدركت فداحة الحقيقة، فدلفت إلى العلية لتجد جثمان زوجها مسجى، قد غُسل وطُيب وكُفن، فاستنجدت بالجيران، الذين قاموا بدورهم بإبلاغ أولاده، وبعد انتهاء مراسم العزاء، قام أبناء الفقيه بترحيلها على ظهر جملها، وهم يرددون "أهلك أوْلَى بكِ"، ولم تنسَ "الحولاء" أن تختطف الكتاب الأصفر من تحت وسادة زوجها الراحل، وفي طريقها كانت تحاول جاهدة تفسير سبب وفاته، هل مات بسبب السمن الدسم؟ أم بسبب طعام "الدُّجر" الذي مضى عليه عامان؟ أم أن وزغة قد ابتلعت فيه؟ لتختتم رحلة التخمين بقولها "لا أحد يموت قبل يومه"، وتتبعها بتمتمة "سمّني وهمّني، وبالشعوذة عمّني، وللجنّ ضمّني". استقبلها شقيقها "معطر الجن" بترحاب بالغ، وأغدق عليها من كرم الضيافة، لمحها وهي تدس الكتاب الأصفر تحت وسادة في ركن البيت، لكنه آثر الصمت، ولم يبح لها بأي سؤال، حتى باشرته بالحديث عن مصابها، وعندما سألها عن سبب وفاة زوجها، ذرفت الدموع ثم انفجرت ضاحكة، ليقول لها "معطر الجن" مواسياً "لا يقدر في أمهات الخلاخيل إلا عزرائيل". ورثت "الحولاء" عن زوجها الفقيه علم القراءة والكتابة، وأضحت فقيهة ماهرة، وبرغم قصر مدة زواجها، إلا أنها أتقنت فن الفتشة والحجبة، وبحسن نية تساءل شقيقها "معطر الجن": لماذا لم تمكثي في بيت زوجك حتى تنقضي عدتك؟ فأجابت "الحولاء": لا تتهمني بالتقصير، فما مضى على وفاته سوى ثلاثة أيام، فقال: يا بنت الحلال، لم أتهمك بالتقصير، هذا شرع الله، فعلقت: "والله ما خرجت من عند عياله الكرام إلا كرهاً، أصروا عليّ بالبقاء، ولكني لا أطيق البقاء بين صبية صغار، لا هم لهم إلا اللهو واللعب". استعطفت "الحولاء" شقيقها "معطر الجن" ووعدته بالخير الوفير، فوافق على ممارسة مهنتها في مداواة المرضى، وبدأت تستقبل الزوار من كل حدب وصوب، وكلفت شقيقها باستقبالهم وتبخيرهم، وكلما سأله أحد "هل تعالج مع أختك؟" أجاب "ما غير أعطر الجن"، ومن هنا أطلقوا عليه لقب "معطر الجن". صرف "معطر الجن" النظر عن الزواج، وطلب من العريفة أن يعتذر نيابة عنه لأقاربه، بعذر مقنع يحفظ ماء الوجه، فسأله العريفة: وما العذر الذي تريدني أن أتعلل به؟ فأجاب "معطر الجن": أخبرهم أن أختي قد سحرها الفقيه قبل وفاته، وأصبحت تتصرف بغرابة، وأنا لا أريد أن أتزوج وأنا قلق بشأنها، فتبسم العريفة وقال: صدق من سماك معطر الجن. أصبح "معطر الجن" في حيرة من أمره، لا يدري أين يجد مكاناً يستوعب كميات السمن والعسل والتمر التي تتدفق عليه، فكل مريض يدخل بيته مكتئباً، ولا يخرج من عند "الحولاء" إلا وهو مبتهج، وتزداد الهدايا والعطايا والمكافآت، فالحنطة تأتي على حدة، والبن الشدوي يأتي على حدة، والأقمشة والملابس، وما ينقص "معطر الجن" إلا حضن دافئ، وكلمة طيبة، وابتسامة ساحرة. أشار عليه العريفة أن يتزوج ابنة أخته، فقال "معطر الجن": أنا أستحي من الله، أعرف أمها كانت على علاقة بخالي، استنزفت كل ما يملك من مال، ولا أريد أن يتحدث الناس عني، ويقولون تزوجت بمن هي في عمر بناتي، فلو كنت تزوجت في شبابي لكانت بناتي أكبر منها، فقال العريفة: وماذا تريد أفضل من فتاة يافعة تبهج أيامك، وتنشط عروقك، وتملأ حياتك؟ فرد عليه: لا تزدني شوقاً، وليست لدي رغبة في الزواج. وكانت ناقة العريفة ترعى بالقرب منهما، فقال العريفة مازحاً: إذن تزوج ناقتي، فضربته الناقة في ساقه، وابتعد وهو يقول "هذي جزاة اللي يشفق على الناس". ولأنه لا يريد أن يغضب العريفة، عاد إليه متودداً، وحمل له سراً عن "الحولاء" كمية وفيرة من السمن والعسل والتمر والقهوة، وأقسم له أنه لا يعزف عن الزواج بابنة أخته، إلا زهداً في مراحمته ومصاهرته، وذكّره بالمثل القائل "سأل البغل أمه من هو أبي؟ فأجابت خالي حصان"، فضحك العريفة وقال: والله ما نصحتك إلا من مودة، وأختك خلها للجن في بيتك، وسأعطيك العالية لتسكن معي في البيت، وأنت تستأهل كل خير. ظل "معطر الجن" يفكر ملياً "العريفة هو كبير القرية، والرجال شغله الشاغل، فكيف أوفق بين إرضائه وإرضاء أختي؟ فقال يا عريفتنا: أنا موافق، ولكن بشرط ألا تجبرها على شيء. وسمعت أخته "الحولاء" بالخطوبة، فتسللت ضحى إلى بيت العروس، وراحت تثير الرعب في قلبها، وأقسمت لها أن الجن يغنون ويرقصون طوال الليل في البيت، لأن ابنتهم عشقت أخاها الشاعر، ومعه بخور إذا بخّرهم به "وردوا"، وإذا فحّم جمره "صدّروا"، فأفزعتها، وحلفت لخالها إن أجبرها على الزواج لتنتحر، وتهدده بفضيحة. في فصل الصيف، قدم المصور من الطائف، والتقط لهما صورة، وقال: سأقوم بتحميض الصورة وإرسالها لكم مكبرة، وبعد ثلاثة أشهر وصلت الصورة داخل ظرف أبيض، وما إن أخرج الصورة حتى صرخ "معطر الجن" معبرا عن خيبة أمله، ففي الصورة لم يظهر منه سوى نصف وجهه، فقال: أعرف حظي التعيس، خرجت من بطن أمي قبل الموعد، وبنيت البيت وما سكنته، وأصبح بيتي مستشفى لـ "الحولاء"، وفي النهاية يأتي هذا المصور ليحرمني فرحة صورتي مع العريفة، ولكن كما قال المثل "لا تحسد الثور على كبر عيونه".

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة